إلى متطوعي المستقبل الأعزاء،
لقد أيقنتُ من خلال بعثتي أنَّ الحياة لا تأخذ قيمتها الحقيقية إلا من خلال تسخيرها لخدمة الآخرين، والعمل بكل تواضع وكل كرم من أجلِ إخواننا في الشرق، وذلك بُغية التمسك بالرجاء ومُساندتهم في حياتهم اليومية.
وكان من دواعي سروري أن أكون مسؤولًا خلال بعثتي عن المشاريع في القاع، وهي بلدة مسيحية صغيرة تقع شمال البقاع بالقرب من الحدود السورية. فشهدتْ البلدة خلال الأربعين سنة الماضية أحداثًا مأساوية مُتعددة مثل إعدام ستة وعشرين شابًا من البلدة خلال الحرب الأهلية في لبنان، أو احتلال تنظيم الدولة الإسلامية للجرود المحيطة بها بين عامي 2016 و2017. وأخيرًا شهدتْ هجمات 27 حزيران/يونيو 2016، وهي ما راح ضحيتها خمسة رجال وإصابة حوالي ثلاثين آخرين جرّاء تفجير ثمانية انغماسيين لأنفسهم.
ولكن للأسف لا يزال الكَرَب يضربُ القاع، إذ يواجه لبنان أزمة سياسية مترافقة بأزمتين اقتصادية وصحية… وزاد من وطأتها الإنفجار الرهيب في مرفأ بيروت في يوم 4 آب/أغسطس. فعاينتُ عن كثب خلال بعثتي تدهور الظروف المعيشية في لبنان على نحوٍ سريع وقاسٍ، فباتَ 60 بالمئة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، اللهمَ إن لم ترتفع تلك النسبة أكثر في هذهِ الأثناء.
عندَ وصولي إلى لبنان كانت الكهرباء والبنزين والطعام متوفرة. ولكن حالياً لم يعد لدى العديد من العائلات ما يكفي من الطعام، أو القدرة على تأمين العلاج، بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء وحتى البنزين. وأسرّت لي إحدى العائلات من القاع أنها تعجز عن شراء الخبز، وهو غذاء أساسي في الشرق الأوسط. لذلك تعتمدُ في إطعام أطفالها الستة على الفواكه والخضروات التي يحضرها الأب من الحقول التي يعمل فيها.
لقد التقيتُ في لبنان بأناسٍ أقوياء ولكن مرهقين من الوحدة، ومتعطشين للصداقة والأمل بإخوانهم الغربيين. فيذكروننا جميعهم بالارتباط العميق التاريخي مع فرنسا. ويقول ميشيل جارنا وهو يحتسي فنجانًا من القهوة: “لقد كانت فرنسا بمثابة الأم للبنان”. وقال آخرٌ: “لقد تأثرت برؤية الشباب أمثالكم يأتون لمساعدتنا طوعياً”. وأضافت إحدى ساكنات بيروت وهي من صلينا معها للتو صلاة “السلام عليكِ يا مريم” قائلة: “آمل رؤية العديد من المتطوعين الآخرين في لبنان”.
ولكن قبل الغرق في أحلام تحقيق البطولات في البعثة، يجبُ إطاعة الله باستمرار وأن يكون هو أول من يُخدم. كما يجب إطاعة الآخرين بتواضعٍ ولطفٍ ووداعة وصبر ومساعدة الآخرين وبلطف وبهجة.
إنَّ البعثة ليست سهلة وتتطلب التضحية بالذات في كل شيء ولخير جميع الناس، سواء أثناء النشاط أو في الحياة اليومية مع المتطوعين الآخرين. وحتمًا ستشهد البعثة تقلبات، ولكنني أعدكَ أنّ اللقاءات التي ستجريها أثناء الأنشطة ستكون استثنائية.
وشعرت حقًا بأنَّ القاع بأكملها قد تبنتني، فجميع السُكان يعتبروننا أفرادًا من عائلاتهم. فكنا نحتسي القهوة معهم ونتناول العشاء مع كبار السن على الرغم من أنهم لا يعرفون أية كلمة بالفرنسية ، لكنهم يعتبروننا أحفادهم، وكانوا يدعوننا إلى زيارتهم في منازلهم الحميمية والدافئة.
وفي الشوارع كان الأطفال يتعرفون علينا ويتعقبوننا، في حين كانت الأمهات تدعونا من النوافذ للدخول واحتساء القهوة، وعند رؤية أنوار منزلنا، كانوا يطرقون على الباب لتقديم الجبنة والتبولة وغيرها من الأطباق المنزلية، في حين أنهم ربما لا يأكلون إلا وجبة واحدة في اليوم.
يُطل على القاع صليب كبير في أسفل التلة وصليب أصغر في الأعلى. فصعدنا إلى الصليب الأعلى مع إليز وهي شابة من البلدة. لو لم نكن حاضرين لكانت قد توقفتْ عند المستوى الأول. يداً بيد وخطوة بخطوة وجهنا إليز إلى القمة، وبالتالي علينا نحن المتطوعون أن نكون القوة الدافعة إلى الأمام.
وستجعلك البعثة تنمو في الرحمة والمحبة، فكل يوم كانت تُتاح لي الفرصة لسماع شهادات مؤثرة من أولئك اللبنانيين الذين لم ترحمهم الحياة.
وستفهم من خلال الأنشطة واللقاءات أنَّ قلب المتطوع يجب أن ينبض بالحب المجاني، وألا يرضى بأنصاف الحلول، وأن يبحث عن الحقيقة بكل تواضع وحرية.
كليمانس، متطوعة في لبنان
مسؤولة قسم المتطوعين