لنمد يدَ العون إلى 1300 عائلة لبنانية تعيش الحرب

تتأرجحُ المسبحة المُتدلية أمام المرآة وفقَ إيقاع اهتزازات السيارة. فالطريق عبر الوادي متعرج ومهجور، والجو يُثقل النفس ويسود صمتٌ كئيب. لكن رؤية مسبحة الصلاة أمام أعيننا تذكرنا بأنَّ الله يرعانا مهما حدث.

نحن الآن في جنوب لبنان، في طريقنا باتجاه القرى المتاخمة لإسرائيل والبحر الأبيض المتوسط، وهي منطقة يُسيطر عليها حزب الله.

لقد أشعل إعلان تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948 فتيل الصراع العربي الإسرائيلي، وفي طبيعة الحال شكل جنوب لبنان خط التماس. ومنذ ذلك الحين يرزح لبنان تحت وطأة الإعتداءات والهجمات والإجتياحات الإسرائيلية. لذا، ظهرت إلى الساحة في عام 1982 حركة لبنانية شيعية، بذراعها المُسلح المعروف بحزب الله. ولم تهدأ حدة التوترات بين الهيئتين المُسلحتين حتى يومنا هذا، على الرغمِ من نشر قوّات الأمم المُتحدة المؤقتة UNIFIL في المنطقة.

ويحاولُ القرويون العالقون بين المطرقة والسندان، جيلاً بعد جيل، البقاء على قيد الحياة في هذه الأرض الخصبة والمواتية للزراعة. فهي أرضٌ تغمرها أشعة الشمس وتسقيها أمطار السماء بوفرة، لذا يكسب اللبنانيون رزقهم اعتمادًا على زراعة الزيتون والزعتر البري والفاكهة وتربية المواشي.

لكن للأسف انهمرت القنابل وأحرق الفوسفور الأشجار مُسممًا التربة، مرة أخرى، في خريف عام 2023، مما أتلفَ المحاصيل لهذا العام. وسيطر الخوف على قلوب الناس، فهربَ الكثيرون إلى صور أو صيدا أو بيروت.

استجابةً لهذه الأوضاع المأساوية، خصصتْ منظمة SOS مسيحيي الشرق مبالغ استثنائية على نحوٍ عاجل في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023 لتلبية الاحتياجات الغذائية لـ 1300 عائلة في 21 قرية لبنانية على الحدود الجنوبية.

وطُلب مني، على غرار غوتييه فالاد وهو مسؤول السلامة لدى SOSCO، السفر لإعداد تقرير عن هذه الحملة الطارئة. ومن دون تردد وبإدراك تام للمخاطر، انضممت إلى الفريق في صيدا، وكان موعدنا في مستودع المواد الغذائية. لقد كان المستودع يغصُ بأكياس البقوليات والتوابل والمُعلبات وزجاجات المياه. كل هذهِ الخيرات ستوضع ضمن آلاف الطرود لتوزع فيما بعد على العائلات المُحتاجة.

في المخزن، يعمل الرجال الشُجعان بصمت. يضعُ أحدهم خمس علب من التونة في كل طرد، في حين يضع آخر كيسًا من البرغل. ومن ثمَّ تُضاف أكياس الفاصوليا البيضاء والحمراء والحمّص وزيت عباد الشمس وزيت الزيتون والزعتر والسكر والجبن والحليب المجفف والمعكرونة والعدس الأحمر والأرز. ستكفي تلك الكمية إطعام عائلة لمدة أسبوعين.

“يُعاني إخوتنا في جنوب لبنان من قسوة الحرب. فحياتهم اليومية عبارة عن غارات جوية، وأصوات الإنفجارات والرصاص التي تصم الآذان. لقد أُجبروا على البقاء منعزلين في منازلهم لتجنب الإصابة بعيار ناري، وبات من الصعب العثور على العمل لتأمين الطعام والشراب. وفي هذا السياق، توفي رجل لبناني أثناء ذهابه لإحضار الطعام لأطفاله، وآخر أثناء ركوبه دراجته النارية، وقُصف شخص ثالث في شاحنته.”

من الصعب تخيل الحرب، لأنَّ في بيروت أو هنا، لا نشعر بتلك التوترات. فالمطاعم مُمتلئة، والمدارس مفعمة بالحياة، والكنائس مكتظة بالمُصلين. كيف يمكن لبلدٍ صغير بحجمٍ مُحافظة فرنسية أن يجمع كل تلك التناقضات ؟!

في أعقاب مرور ساعاتٍ عديدة من التعبئة والتغليف، تمَّ تحميل ثلاث شاحنات بالطرود الغذائية التي تحمل شعار منظمتنا. وقاد القافلة آرثور لانترنييه، رئيس البعثة في لبنان، بصحبة كارين عشقوتي مُديرة المشاريع في البعثة.

واستغل آرثور الطريق ليحدثنا عن المنظمات الإنسانية العالمية التي من المُفترض أن تعمل في المنطقة أيضًا، لكن التوترات الحادة للغاية تحول دون استمرارية عملها.

وتبدأ حملتنا في القليعة في محافظة مرجعيون. هنا حيثُ تكسي الغابات سفوح الجبال، وتمتد بساتين الزيتون على مدّ البصر، ويتدفق نهر الليطاني عبر الوادي. وعلى بُعد بضعة كيلومترات تشمخُ آثار قلعة بوفور، وهي حصن بناه الصليبيون في القرون الوسطى. تحت أشعة الشمس الساطعة والنسيم العليل، تتناقض هذه اللوحة الريفية بشدّة مع الظروف المعيشية التي يعاني منها سكان القرية، كما توضح لنا السيدة بولين:

“أعيشُ هنا مع أطفالي الأربعة وزوجي. لم نهرب من منزلنا لأنه ليس لدينا خيار آخر. في البداية، كان الأطفال يشعرون بالذهول والخوف، إلا أنهم اعتادوا على الأصوات ويحسبون عدد القذائف والصواريخ الصادرة والواردة.

كنا نلجأ في الليل إلى قبو جهزناه للنوم بعيدًا عن ضجيج القصف الذي يصم الآذان. وأحيانا كانت القنابل تهز المنزل. إنه لأمرٌ مُرعبٌ! وذات يوم عندَ الخروج من القدّاس الإلهي، سقطت قذيفة على مقربة منا، فقفزت من شدة الخوف!. نحن نعيش يومًا بعد يوم ولا نعرف ما يخبئه المُستقبل لنا.”

لم يتوقف دوي الإنفجارات، على الرغم من سريان الهدنة، ورأينا أعمدة الدخان تتصاعد من الجبل المقابل. ولم تتأخر نيران الرد بدورها، فكانت الأصوات اعلى وأقوى. أدركتُ حينها أنني في ساحة إحتراب شرسة. لكن هذا الحدث لم يثبط من عزيمتنا على إتمام الحملة. وبلا كلل، في قرية تلو الأخرى، كنا نُفرغ الطرود لكي يحضر أرباب الأسر لاستلامها. لقد كانوا صامتين، مما جعلني أتخيل الغضب الكامن في أعماقهم، والمُتجذر في كيانهم، نتيجة الظلم الذي مزق قلوبهم وأرواحهم. ومع ذلك، لا، لم يبدوا غاضبين، لا بل يمكنُ رؤية الإحسان والعطف على وجوههم، وليس الكراهية، فإيمانهم هو من يدفعهم للاستمرار.

في ساحة مار شربل على مرتفعات قرية دبل، يُقدمُ أحد المُسنين على كرسي متحرك شهادته: ”عمري 86 عامًا، وأنا مُقعَد منذ 40 سنة، لقد أصبت برصاص الإسرائيليين. وعلى الرغم من كل ما حدث في دبل، إلا أنني لن أغادر قريتي إلا جثة هامدة، أريد أن أموت في بيتي. أنا ممتنٌ لعطفكم، فرنسا هي أم لبنان.”

 

إنَّ إرتباط اللبنانيين، المهددين بالموت يوميًا، بإرضهم يثير الإعجاب، هنا أرضُ أجدادهم التي شهدت طلائع طفولتهم. وفي مواجهة الظلم، يصمدون متواضعين، لذا يستحقون التقدير والحياة الكريمة.

لقد عدت الآن إلى فرنسا، وبمقدوري أن أشهد على ما رأيته. فحين يسود عدم الإستقرار قُرى جنوب لبنان وتكاد أصغر شرارة أن تُشعل المنطقة برّمتها، يحتاج هؤلاء اللبنانيون إلى عطائكم وصلواتكم. لنبقيهم في قلوبنا ونواجه معهم أزيز الرصاص بالإيمان.