وليمة في عيد القدّيسة مريم العذراء

  استهلَ المتطوعون توزيع التبرعات بالأجهزة الكهربائية المنزلية والأغطية على الأسر الفقيرة في قرية باقور، وباللحوم الطازجة على الأسر في دير ربفا في محافظة أسيوط بصعيد مصر، وذلك بمناسبة عيد انتقال السيدة العذراء. كما شاركوا في الاحتفالات التي نظمتها الكنيسة تهليلًا بأمنا السماوية.

بعد ست ساعات من السفر، وصلنا أخيرًا إلى قرية باقور، حيثُ كانت الشمس في أوج ذروتها تُلقي أشعتها الحارقة على البيوت الحجرية. مما يرفع درجة حرارة الهواء، وهو ما يميز فصل الصيف في مصر.

إنَّ مهمتي سهلة للغاية: وهي توزيع مواقد الغاز والمراتب والوسائد على الأسر الأكثر فقرًا في القرية، مما أسعدني أن أتسبب في تقديم بعض الراحة إلى السُكان هنا. لكن سُرعان ما خيم علي حزن بغيض، إذ أدركت أنَّ حاجز اللغة يمنعني من التواصل الحقيقي مع النساء اللاتي أقدم لهن هذه التبرعات. كانت ابتساماتنا صادقة، وإيماءاتي مليئة باللطف، ولكن من دون كلمات للتعبير عن المشاركة واقتصرَ التواصل على إيماءات اللباقة فقط.

غادرتُ القرية قاصدًا دير ريفا، وهي قرية أخرى حيث سأقضي فيها الليل. فاستقبلنا مضيفونا بترحيب حار، إذ أعدت لنا إحدى سيدات القرية وجبة غداء بسيطة ولكنها لذيذة: أرز بالشعيرية، وطماطم طازجة ودجاج مشوي. كل قضمة كانت تأخذني في رحلة في النكهات المحلية، وتغمرني بنعمة الراحة بعد يوم عمل وسفر مُتعبَين.

استيقظتُ في اليوم التالي لأرى القرية تعج بالصخب. فسيتم التضحية ببقرة لإطعام عائلات دير ريفا. وكان الأولاد يسحبونها بأيديهم الثابتة رغم محاولات الدابة للإفلات من قبضتهم. وبمجرد وصولها إلى وجهتها الأخيرة، أخرجَ الجزار سكينه، تظهر عليها علامات الزمن، وبخفة وخبرة، نُحرت الذبيحة وتدفق الدم ليشكل بركة حمراء على التراب. يسود صمتُ إجلال بينما رُفعت الذبيحة لتقطيعها. كل قطعة كان يتم وزنها بعناية، وتوزيعها على نحوٍ عادلٍ في أكياس لتوزع فيما بعد على منازل القرية.

شرعتُ في تحميل الأكياس في العربة مع المتطوعين الآخرين لتوزيعها عبر الأزقة. ومررت بأطفال ومراهقين ذوي ابتسامات عريضة علامةً على سعادتهم بزيارتنا. وكانوا يُروني بكل فخر كلابهم، وكتاكيتهم، والدجاجات التي اشتروها بالقليل من الفلوس التي لديهم. الابتسامات لا تعد ولا تحصى وكذلك طلبات التقاط الصور معنا تخليدًا لهذه اللحظات البسيطة، والجميلة، والمليئة بفرح الطفولة العفوية.

لكن جولة التوزيع الثانية كانت أكثر مرارة. فالعائلات التي قابلتها كانت أفقر بكثير. وكان الأطفال العُراة تقريبًا يقفون بخجل خلفَ والديهم الذين كانوا ينظرون إلي بابتسامات بلا أسنان، ونظراتهم فرحة وحزينة في آنٍ معًا. لن تُمحى الكئابة الراسخة في أرواحهم على الإطلاق. ومع ذلك، كان الجميع ممتن وشكور لاستلام قطع اللحم. وسُرعان ما يشرق في أعينهم بصيص أمل كردة فعل على سعادة عابرة.

ومع عودتي إلى نقطة التوزيع كانت كل الأكياس قد وزعتْ، وجفَ الدم الذي لطخ الأرض، وغُسلت طاولة التقطيع. في حين كان الأطفال يلعبون على مقربة منا، وضحكاتهم الكريستالية تملأ الأجواء. ويمر قطيع من الأغنام بقيادة راعيان صغيران يتمايلان بخطوات رشيقة. أنهي يومي في بيت عُمدة القرية، تلبية لدعوة على العشاء لتذوق الأطباق التقليدية، وتقاسم لحظات من الإلفة قبل المُغادرة.

أشقُ طريقي وسط الحشود للوصول إلى الكنيسة. فأعداد الحجاج الهائلة من حولنا تحول دون تقدمنا بسرعة، في حين كانت نظرات المصريين من صعيد مصر الفضولية تقع علينا وأعينهم تلمع دهشةً، إذ نادرًا ما يرون الأوروبيين، فما بالك بالفرنسيين ! لم يكن لدينا خيار آخر سوى أن نغدوا محطَ الأنظار. أخيرًا، وصلت إلى مدخل الكنيسة، وهي مبنى متواضع ولكن ساحر وغامض، المحفور في الصخر.
 
كان الهواء في الداخل حار ورطب، مما جعل الأرضية زلقة والجدران متقشرة. النساء يلوحن بمراوحهن اليدوية بينما كان الأطفال يغفون على المقاعد. تزداد أصوات الهمس بين المصلين كلما اقتربت من المغارة التي، بحسب التقاليد الكنسية، لجأت إليها العائلة المقدسة أثناء هروبها إلى مصر. هنا تسود هالة قداسة لا مثيل لها، ملاذ حجري سيبقى خالدًا مهما طال الزمن. كانت تلك اللحظة مهيبة، وخلوة روحية وسط الصخب. لكن الحشود المتدافعة تحثني على مواصلة طريقي. لكن سُرعان ما لاحظ أحد المُنظمين اهتمامي بالمغارة. فأمرَ الحشود بكل احترام بالتنحي جانبًا لأتمكن من الاقتراب من المغارة والتقاط صورة. في الواقع، شعرتُ بالحرج من هذه المعاملة التفضيلية. وأدركت الامتياز الممنوح لي في هذا المكان المقدّس. لذا هرعتُ إلى التقاط بعض اللقطات، على أمل أن تتمكن الصور من تخليد خصوصية المكان. وانضممت مرة أخرى إلى رفاقي محاولًا الاندماج معهم مرة أخرى.
 
ويدخل الموكب الكنيسة، في المقدمة، يسير الأسقف ببطء، محاطًا بخدّام القداس الحريصين على حمايته من تدافع المؤمنين. فكل واحد من الحضور يسعى إلى لمس ثوب الأسقف، كما لو كان يلتقط جزءًا من البركة في هذه اللحظة المقدسة. الأيدي ممدودة، والأجساد تنحشر، ويتحرك هذا الطوفان البشري في تناغم فوضوي من حول الأسقف. وتعلوا أنغام الترانيم العربية، لتملأ المكان بألحان آسرة يتردد صداها بروح خاصة في هذا المكان المميز، وتندمج مع أصوات المؤمنين وتغمرنا في عالم آخر من المسيحية المشرقية. لكن كما كل لحظة جميلة تأتي النهاية.
 
على مضض، خرجت من الموكب، تاركًا خلفي مشهد التكريس النابض بالحياة. وركبت الحافلة، مدركًا أن هذه اللحظة هي نهاية إقامتي في صعيد مصر. وبينما كانت الحافلة تغادر، أعدتُ نظري للمرة الأخيرة نحو القرية التي تتلاشى في السراب، آخذًا معي ذكريات تلك الأيام. غدًا سأستأنف الأنشطة مع الأطفال في القاهرة، لكن جزءًا مني بقيَ هنا، بين تلك الوجوه، وتلك الترانيم، وذلك الإيمان العميق الذي أثرَ فيَ خلال زيارتي لصعيد مصر.